الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنَّ الأصل هو رفعَ اليدين حالَ الدُّعاء مطلقاً؛ وذلك إظهارا ًللذُّلِّ والانكسار، والفقر إلى الله – سبحانه - وتَضَرُّعاً واستجداءً لنَوَالِهِ، وهو من آداب الدعاء المتفق عليها، وأسباب إجابته؛ لما فيه من إظهار صدق اللجوء إلى الله عز وجل والافتقار إليه؛ كما يُشِير إليه حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقبل إلا طَيِّباً))، وفيه: ((ثم ذَكَرَ الرَّجُلَ يطيل السَّفَر، أشعثَ أغْبَرَ، يمدُّ يديْهِ إلى السماء: يا رب، يا رب))؛ رواه مسلم. - قال العلامةُ ابنُ رجبٍ الحنبلي: هذا الكلام أشار فيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابَةَ الدُّعاءِ أربعة ... قال: الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابتُه، وفي حديث سلمانَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حَيِيٌّ كريم يستحْيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يرُدَّهُما صفراً خائبتين))؛ خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. ورُوِيَ نحوه من حديث أنسٍ وجابرٍ وغيرِهِما. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه، ورَفَعَ يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبيه، وقد رُوِي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة رفع يديه في الدُّعاء أنواعٌ متعددة...قال: ومنها: رفع يديه، جعل كفَّيه إلى السَّماء وظهورهما إلى الأرض . وقد ورد الأمرُ بذلك في سُؤال الله - عز وجل - في غير حديث، وعن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن سيرين: "أنَّ هذا هو الدُّعاء والسُّؤال لله - عز وجل". - وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية في "الفتاوى الكبرى": "ويُسَنُّ للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يختِمَهُ بذلك كله وبالتأمين". وقال: "وأما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه في الدعاء: فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة". - وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه كُلَّمَا دَعَا؛ ففي "الصحيحين" وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: ((فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه)) الحديث. - وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في قصة خالد لما أمره أصحابه بقتل ما بأيديهم من أسرى – وفيه: فلَمَّا أُخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك رفع يديه فقال: ((اللهُمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد "مرتين")). - وقد بَوَّبَ البُخَارِي في "صحيحه" أيضاً لهذه المسألة فقال: "باب رفع الأيدي في الدعاء"، وأشار ضمن هذه الترجمة لهذين الحديثين وغيرهما. - وقال الإمام النَّوَوِي في "شرح مسلم": "قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن، وهي أكثر من أن تُحْصَى. قال: وقد جَمَعْتُ منها نحواً من ثلاثين حديثاً من "الصحيحين". ومن المعلوم أن رَفْعَ اليدين في الدعاء ثابت بأحاديث بلغت مبلغ التَّواتُر المعنوي؛ قال الإمام السيوطي في الألفية: خَمْسٌ وَسَبْعُونَ رَوَوْا "مَنْ كَذَبَا" = وَمِنْهُمُ الْعَشْرَةُ ثُمَّ انْتَسَبَا لَهَا حَدِيثُ "الرَّفْعِ لِلْيَدَيْنِ" = وَ"الْحَوْضِ" وَ"الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ" - وفي الصحيحين عن سهل بن سعد، في قصة صلاة أبي بكر بالصحابة، لما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلح بين بني عمرو بن عوف، وفيه -: "فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره أن يُصَلِّي، فرفع أبو بكر - رضي الله عنه - يديه فحمد الله عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ" الحديث. ومعلوم أن هذا كان في الصلاة؛ ففي غيرها من المواضع أولى وأحرى. قال الباجي في "المنتقى": "ورَفْعُ أبي بكر يديه في الصلاة للدُّعاء دليلٌ على جواز ذلك في الصلاة. وقد روي عن مالك جواز رفع اليدين في موضع الدعاء". ولا يخرج عن هذا الأصل إلا ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا ولم يرفعْ يديه فيها؛ كالدعاء بين السجدتين، وفي آخِرِ التَّشَهُّد، ودعاء الاستفتاح وفي خطبة الجمعة للإمام - في غير الاستسقاء – فإنَّ السُّنَّةَ فيها الإشارةُ بالإصْبَع فالأدِلَّةُ فيها خاصة. قال النووي في "المجموع" -: فرع: في استحباب رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة، وبيان جملة من الأحاديث الواردة فيه -: "اعلم أنه مُسْتَحَبٌّ؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى عن أنس - رضي الله عنه – "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى ورفع يديه وما في السماء قَزَعَة؛ فثار سحابٌ أمثال الجبال, ثم لم ينزل من مِنْبَرِهِ حَتَّى رأيت المطرَ يَتَحَادَر من لحيتِهِ"؛ رواه البخاري ومسلم، وَرَوَيَا بمعناه عن أنس من طرق كثيرة، وفي رواية للبخاري: "فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ورفع الناس أيديَهُمْ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرنَا، فَمَا زلنا نُمْطَرُ حتى كانت الجمعة الأُخرَى"، وذكر تمام الحديث. وثبت رفع اليدين في الاستسقاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية جماعة من الصحابة غير أنس، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وعن أنس - رضي الله عنه - في قصة القُرَّاءِ الذين قُتِلُوا قال: "لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُلَّمَا صلَّى الغداة رفع يديه يدعو عليهم، يعني: على الذين قتلوهم"؛ رواه البيهقي بإسناد صحيح حسن. وقد سبق عن عائشة - رضي الله عنها - في حديثها الطويل في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل إلى البقيع للدعاء لأهل البقيع والاستغفار لهم قالت: أتى البقيع؛ فقام فأطال القيام، ثم رفع يَدَيْهِ ثَلاثَ مرَّات ثم انحرف، وقال: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: إن ربك يأمُرُكَ أن تأتي أهل البَقِيع وتستغفر لهم))؛ رواه مسلم . وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه قال -: ((لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه يقول: اللهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وعدتني, اللهم آت ما وعدتني، فمازال يهتف بربه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه))؛ رواه مسلم. (قوله) يهتف - بفتح أوله وكسر التاء المُثَنَّاة فوق - يقال: هتف يهتف إذا رفع صوته بالدعاء وغيره. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: ((أنه كان يرمي الجمرة سبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يستقبل؛ فيقوم مستقبل القبلة؛ فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال؛ فيستقبل ويقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة ولا يقف عندها ثم ينصرف؛ فيقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يفعله))؛ رواه البخاري. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((صَبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بكرة، وقد خرجوا بالمساحي فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خيبر))؛ رواه البخاري في آخر علامات النبوة من صحيحه. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: ((لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس وذكر الحديث وأن أبا عامر - رضي الله عنه - استشهد فقال لأبي موسى: يا ابن أخي أَقْرِئِ النبي - صلى الله عليه وسلم - السَّلاَمَ وقل له: استغفر لي، ومات أبو عامر قال أبو موسى: فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ورأيْتُ بياض إبطيه ثم قال: اللهُمَّ اجعَلْهُ يوم القيامة فوق كثير من خلقك ومن الناس، فقلت: ولي فاستغفر فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مُدخَلاً كريماً))؛ رواه البخاري ومسلم. وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول: إنما أنا بشر فلا تعاقبني، أيما رجل من المؤمنين آذيته أو شتمته فلا تعاقبني فيه)). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة وتهيأ ورفع يديه وقال: اللهم اهدِ أوساً وأْتِ بهم)). وعن جابر - رضي الله عنه -: ((أن الطفيل بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل جابر في حِصْنٍ حصينٍ ومَنَعَةٍ ؟ وذكر الحديث في هجرته مع صاحب له، وأن صاحبه مرض فجزع فجرح يديه فمات فرآه الطفيل في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما شأن يديك؟ قال: قيل: لن يصلح منك ما أفسدت من نفسك؛ فقصها الطفيل على النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: ((اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فاغفر - رفع يديه)). وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((جاءت امرأة الوليد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه زوجها أنه يضربها؛ فقال: اذهبي إليه فقولي له: كيت وكيت، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذهبت ثم عادت؛ فقالت: إنه عاد يضربني فقال: اذهبي فقولي له: كيت وكيت فقالت: إنه يضربني فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فقال: اللهم عليك الوليد)). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافعاً يديه حتى بدا ضبعاه يدعو لعود عثمان، رضي الله عنه)). وعن محمد بن إبراهيم التيمي قال: ((أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو عند أحجار الزيت باسطاً كفيه)). وعن أبي عثمان قال: ((كان عمر - رضي الله عنه - يرفع يديه في القنوت وعن الأسود أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يرفع يديه في القنوت)). هذه الأحاديث من حديث عائشة: ((إنما أنا بشر فلا تعاقبني)) إلى آخرها رواها البخاري في كتاب "رفع اليدين" بأسانيد صحيحة، ثم قال في آخرها: "هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته، وفيما ذكرته كفاية، والمقصود أن يعلم أن من ادَّعى حصر المواضع التي وردت الأحاديث بالرفع فيها فهو غالط غلطاً فاحشا والله تعالى أعلم) انتهى. وقد أفتى بعض المعاصرين بأن رفع اليدين عند التأمين على دعاء الإمام يوم الجمعة بدعة. واحتج أولاً: بعدم نقله عن الصحابة، مع كثرة الجُمَع التي صلاها النبي، صلى الله عليه وسلم. ويُجَابُ: بِأَنَّ عدم العلم بالشيء لا يقتضي العِلْمَ بالعَدَم، وبِأَنَّ ما ذكروه مُعَارَض بعموم حديث سلمان وأبي هريرة السابقين، ومجموع الأحاديث الأخرى التي نقلها النووي عن البخاري، وبأن الأصل المُقَرَّر هو أن رفع اليدين من آداب الدعاء عموماً ولا يخرج عن هذا العموم إلا بدليل، وبأن حصر مواضع رفع اليدين في الدعاء بما صح فقط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ محض. واحتجَّ ثانياً: بحديث أنس في "الصحيحين": ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء)). وقد أجاب الحافظ ابنُ حجر في "الفتح" عن هذا الاستدلال بقوله: "إن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع، وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء, وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يُخَالِفُ غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه – مثلاً - وفي الدعاء إلى حذو المنكبين, ولا يُعَكِّر على ذلك أنه ثبت في كل منهما: ((حتى يُرَى بياض إبطيه))، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره, وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تَعَذُّر الجمع؛ فجانب الإثبات أرجح". واحتج ثالثاً: بما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن رُوَيبة: "أنه رأى بشر بن مروان يرفع يديه, فأنكر ذلك وقال: قَبَّحَ اللهُ هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يَزِيدُ على أن يقول بيده هكذا. وأشار بإصبعه المُسَبِّحَة. ويجاب: بأن هذا الحديث أخصُّ من محلِّ النزاع؛ فإنه مُخْتَص بالإمام ولا يشمل المأمومين، ولو سَلَّمْنَا أنه يشملهم، فيكون دالاً على استحباب رفع الإصبع في الدعاء يوم الجمعة، وهم لا يقولون به أيضاً، ثم ليس استدلالهم بهذا الحديث بأولى من الاستدلال بحديث أبي هريرة في رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلتا يديه في دعائه على المنبر للاستسقاء، فإن قيل هذا الرفع خاص بدعاء الاستسقاء؟! قلنا: وكذلك حديث عمارة بن رُوَيبة خاص بالإمام دون المأمومين. ثم إن إنكار عمارة على بشر برؤيته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشير بأصبعه لا يعد دليلا على عدم جواز رفع اليدين بمفرده، لأن عمارة روى ما رأى، وهذا لا ينفي أن يكون رآه غيره على غير هذه الهيئة. قال الحافظ: "ورده – يعني الإمام الطبري - بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة, وهو ظاهر في سياق الحديث؛ فلا معنى للتَّمَسُّكِ به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها". وقد جرى الجمهورُ على تقييد عدم جواز رفع اليدين في الدعاء يوم الجمعة بالإمام دون المأموم ، قال شيخ الإسلام في "الفتاوى": "ويُكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة وهو أَصَحُّ الوجهين لأصحابنا; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يشير بأصبعه إذا دعا، وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر". وقال البهوتي في "كشاف القناع": "(و) يُسَنُّ أن (يدعو للمسلمين)؛ لأن الدعاء لهم مسنون في غير الخُطبة ففيها أولى ... يكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة؛ قال المجد: هو بدعة وفاقاً للمالكية والشافعية وغيرهم. (ولا بأس أن يشير بإصبعه فيه) أي دعائه في الخطبة". وقال الإمام الشوكاني في "نيل الأوتار": "الحديثان المذكوران في الباب يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة". وقال الرملي – الشافعي - في "نهاية المحتاج": "(و) يسن (رفع يديه) فيه (أي في القنوت عندهم)، وفي سائر الأدعية اتباعاً، كما رواه البيهقي فيه بإسناد جيد، وفي سائر الأدعية الشيخان وغيرهما". وحاصل ما تضمنه كلام الشارح هنا أن للأول دليلين: فإنه استدل على القول بأن الرفع سنة للاتباع، وأن القائل بعدم سنيته استدل عليه بالقياس على غير القنوت من أدعية الصلاة كدعاء الافتتاح والتَّشَهُّد والجلوس بين السجدتين . وأفاد بقوله كما قيس الرفع فيه إلى آخره أن القائل بالأول استدل أيضا بالقياس المذكور، ومقابل الأصَحِّ عَدَمُ رفعه في القنوت لأنه دعاء صلاة فلا يُسْتَحَبُّ الرفع فيه قياساً على دعاء الافتتاح والتشهد، وفرق الأول بِأَنَّ لِيَدَيْهِ فيه وظيفة ولا وظيفة لهما هنا، وتحصل السنة برفعهما سواء أكانتا متفرقتين أم مُلْتَصِقَتَيْنِ، وسواء أكانت الأصابع والراحة مستويتين أم الأصابع أعلى منها، والضابط أن يجعل بطونها إلى السماء وظهورها إلى الأرض، كذا أفتى به الوالد رحمه الله تعالى، وخبر: ((كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء))، نُفِيَ، أو محمول على رفع خاص وهو للمبالغة فيه، ويجعل فيه وفي غيره ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء ونحوه، وعلى النقيض من ذلك إن دعا لتحصيل شيء أخذاً مما سيأتي في الاستسقاء، ولا يعترض بأنَّ فيه حركة وهي غير مطلوبة في الصلاة إذ محله فيما لم يَرِدْ، ولا يَرُدُّ ذلك على الإطلاق ما أفتى به الوالد - رحمه الله تعالى - آنفاً إذ كلامُهُ مخصوص بغير تلك الحالة التي تقلب اليد فيها، وسواء فيمن دعا لرفع بلاء في سن ما ذكر أكان ذلك البلاء واقعاً أم لا كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى، واستحب الخطابي كشفهما في سائر الأدعية". وبهذا البيان يتبين أن قياس المأموم على الإمام في عدم رفع اليدين حال التأمين فاسد الاعتبار، وأن رفع اليدين في الدعاء عموماً مشروع وثابت؛ فمن دعا ورفع يديه حال الدعاء، لا يُنْكَرُ عليه، إلا في الحالات السابقة، التي صحَّ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - ترك رفع اليدين فيها. وقد سُئِل ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" عن رفع اليدين بعد فراغ الخطبتين يوم الجمعة هل هو مُسْتَحَب أو بدعة؟ فأجاب: "رفع اليدين سُنَّة في كل دعاء خارج الصلاة ونحوها ومن زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرفعهما إلا في دعاء الاستسقاء فقد سها سهواً بَيِّناً وغلط غلطاً فاحِشاً. وعبارة العباب مع شرحي له (يُسَنُّ للداعي خارج الصلاة رفع يديه الطاهرتين) للاتِّبَاع ... وقال: من ادَّعَى حصرها فهو غالط غلطاً فاحشاً، وهذه لكونها مثبتة مقدمة على روايتهما كان صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، واستَحَبَّ الخطَّابي كشفهما في سائر الأدعية، ويكره للخطيب رفعهما في حال الخطبة كما قاله البيهقي". وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: "ما لم يرد فيه الرفع ولا عدمه؛ فالأصل الرّفع؛ لأنه من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ يَستَحْيِي من عبده إذا رفع إِلَيْهِ يَدَيْهَ أن يرُدَّهُمَا صِفْراً))، لكن هناك أحوال قد يُرَجَّحُ فيها عدم الرّفع وإن لم يرد؛ كالدعاء بين الخطبتين - مثلاً - فهنا لا نعلم أن الصحابة كانوا يدعون فيرفعون أيديهم بين الخطبتين، فرفع اليدين في هذه الحال محلّ نظر، فمن رفع على أن الأصل في الدعاء - رفع اليدين - فلا يُنْكَرُ عليه، ومن لم يرفع بِناءً على أن هذا ظاهر عمل الصحابة، فلا يُنكَرُ عليه؛ فالأمر في هذا إن شاء الله واسع". هذا؛ وقد اضطررت للإطالة في هذا الجواب؛ لالتماس من التمس ذلك مني، ولأنَّ هذه المسألةَ قد كَثُرَ فيها اللَّغَط، والكلام بغير علم، مع الإنكار على المُخَالِف بل والتَّقَحُّم عليه أحياناً أخرى، وأنت خبير بأنَّ المسائلَ الخلافية لا يجوز فيها إلا النُّصح مع بيان الدليل، واعْتَبِر - رعاك الله - بعبارة العلامة العثيمين: "فمن رَفَعَ على أَنَّ الأصْلَ في الدعاء - رفع اليدين - فلا يُنْكَرُ عليه ..."، فكأنه بتلك الكلمات يرسم طريقة التعامل مع المسائل الخلافية. قال الإمام النَّسَفي - الحنفي –: "إنه يجب علينا إذا سُئِلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع أن نجيب بأنَّ مَذْهَبَنَا صوابٌ يحتمل الخَطَأَ، وَمَذْهَب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب". وما أَحْسَنَ قولَ الزركشي: "قد راعى الشافعي - رضي الله تعالى عنه - وأصحابه خلاف الخصم في مسائل كثيرة، وهذا إنَّما يتمشَّى على القول بأن مدعيَ الإصابة لا يقطع بخطأ مُخَالِفِهِ؛ وذلك لأن المجتهد لما كان يُجَوِّزُ خلافَ ما غلبَ على ظنه، ونظر في متمسك خصمه فرأى له موقعاً راعاه على وجه لا يُخِلُّ بما غلب على ظنه، وأكثره من باب الاحتياط والورع، وهذا من دقيق النَّظَر والأخذ بالحزم". وقال القرطبي: "وَلِذَلِكَ راعى مالك - رضي الله تعالى عنه - الخلافَ، قال: وَتَوَهَّمَ بعض أصحابه أنه يراعي صورة الخلاف، وهو جهل أو عدم إنصاف. وكيف هذا وَهُوَ لم يراعِ كل خلاف وإنما راعى خلافاً لشدة قوته". اهـ. نقلاً عن "الفتاوى الفقهية الكبرى "،، والله أعلم.